فصل: الطرف الحادي عشر في المكاتبات الصادرة عن ملوك أهل الغرب:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: صبح الأعشى في كتابة الإنشا (نسخة منقحة)



.الطرف الحادي عشر في المكاتبات الصادرة عن ملوك أهل الغرب:

وقد انفردوا عن كتاب المشرق وكتاب الديار المصرية بأمور: منها أن المخاطبة تقع للمكتوب إليه بميم الجمع مع الانفراد، كما تقع الكتابة عن المكتوب عنه بنون الجمع مع الانفراد.
ومنها أنهم يلتزمون الدعاء بمعنى الكتابة عند قولهم: كتبنا، بأن يقال كتبنا إليكم كتب الله لكم كذا.
ومنها أنهم يترضون عن الخليفة القائمين بدعوته في كتبهم.
ومنها أنهم يذكرون اسم المكتوب إليه في أثناء الكتاب، وباقي مكاتباتهم على نحو من مكاتبات أهل الشرق والديار المصرية؛ وكتبهم تختم بالسلام غالباً، وربما ختمت بالدعاء ونحوه.
ومنها أن الخطاب يقع عندهم بلفظ الرياسة مثل أن يقال: رياستكم الكريمة ونحو ذلك. ولها حالتان:
الحالة الأولى: ما كان الأمر عليه في أسلوب المكاتبات في الزمن المتقدم:
وهو على أربعة أساليب:
الأسلوب الأول: أن تفتتح المكاتبة بلفظ: من فلان إلى فلان:
ويدعى للمكتوب إليه ثم يقع التخلص إلى المقصود بأما بعد، ويؤتى عليه إلى آخره، ويختم بالسلام كما كتب أبو بكر بن هشام عن أبي محمد بن هود، في قيامه بالدعوة العباسية ببلاد المغرب إلى أهل بلد من رعيته.
من فلان إلى أهل فلانة، أدام الله كرامتهم آثرهم بتقواه، وعرفهم عوارف نعماه، كنفهم في حرمه المنيع وحماه، وجعلهم ممن وفق إلى رضاه، وحف بخير ما قدره وقضاه، بسلام.
أما بعد حمداً لله على متتابع واسع فضله، هازم الباطل وأهله، ومورط الجاهل في مهواة جهله؛ الماليء بدعوة الحق ما اتسع من حزن المعمور وسهله، والصلاة على سيدنا محمد نبيه المصطفى خاتم رسله، المؤيد بالقرآن الذي عجزت الجن والإنس أن يأتوا بمثله؛ وعلى آله وصحبه الجارين على قويم سنته وواضح سبله؛ والرضا عن الإمام العباسي أمير المؤمنين، الذي لا إمام سواه للمسلمين؛ المفرع من محتده الكريم وأصله، المدافع عن حرم أمره بسديد نظره وحديد نصله؛ والدعاء لمقامه العلي، ومكانه السني، بالسعد المصاحب بمصاحبة ظله، والعضد الفاتح ما لم يفتح لأحد من قبله، فإنا كتبناه لكم- كتبكم الله ممن انتفع بقوله وعمله، وتوجه إلى رضاه بمبسوط أمله، وجرت له الأقدار بأفضل معتاد وأجمله- من فلانة، والتوكل على الله سبحانه نتائج تبرزها الأيام، ويستنجدها السعد والحسام، ويستدنيها التفويض إلى الله سبحانه والاستسلام؛ والدعوة العلية- أدام الله أيامها، وأسعد أعلامها- الآثار التي تجملت بها المذاهب، والأنوار التي وضحت بها المساري والمسارب، وأضاءت بها المشارق والمغارب. والحمد لله حمداً كثيرا- المكان الذي تتجدد حرمته، وتتأكد ذمته، ولا توضع عن يد الاعتناء والاهتمام أزمته، وإذا أنهضت العزائم لمصالح العباد تقدمت كل العزمات عزمته، لأنه المكان الذي صرف وجوه الأعداء، وصابر مكابدة الإضرار والاعتداء، واحتمل مكروه الدواء، في معالجة الشفاء ومعاجلة حسم الداء، فكرمت آثاره، وتعين تخصيصه بالمزيد وإيثاره، وطابت إخباره، وطالت في مضايق مجال الرجال أسنته وشفاره، فنحن نوجب تكريمه، ونؤثر تقديمه، ونتبع حديثه في الاعتناء قديمه، والله يتولى تكميل قصدنا الجميل فيه وتتميمه!.
وقد بلغ- بلغكم الله أملكم، وأتم نعمته قبلكم- تحرك ذلكم الخائن للإضرار بالبلاد، وإيثاره دواعي الشر والفساد؛ ومتى احتيج إلى إعلام جهة من الجهات بأحواله، وما يتصوره بفاسد خياله، وتغلب كبره المردي واختياله، وما يصدر عنه من قبيح آثاره وأعماله، فإنما يستعلم تخقيقها منكم، ويتعرف تصديقها من لدنكم، بصدق جواركم، ودنو داركم، وتداخل آثاره مع آثاركم؛ فأنتم أقرب اطلاعاً على خبث سره، وسوء مكره، وما يضمر للمسلمين من إذايته وضره؛ فمتى انصرفت وجوه المسلمين إلى جهاده واشتغلوا بتأمين بلادهم، انتهز الفرصة في فساد يحدثه، وعقد ينكثه، واستعجال ما يعجل عليه ولا يلبثه؛ ونحن نعرض عنه إعراض من يرجو متابه، ويرتقب رجوعه إلى الحق وإيابه؛ وهو متخبط في أهوائه، مستمر على غلوائه، مصر على إضراره واعتدائه، لا يكف عنه من استطالته، ولا يريه الاستبصار وجهة جهالته، فوجب علينا بحكم النظر للبلاد التي لحقها عدوانه، وأضر بها مكانه، وتكرر عليها امتحانه، ا، نعاجل حسم علله، ونسد مواقع خلله، ونرد عليه كل مضرة لا حقة من قبله، حتى يستريح الناس إلى أمن مبسوط، وكنف مضبوط، وحوز بالكفاية والوقاية محوط؛ وقد كنا عند الفراغ من مصالح البلاد الغربية، وانتهاء الفتح فيها إلى ما لم يدر بالخاطر ولم يحسب بالنية، نظرنا في إعداد جموع من أجناد الغرب، وتخيرنا منهم كل من درب بالطعن والضرب؛ وسعد لكم من جماهير الأغراب وجزولة وسائر القبائل النازلين بالبلاد، المتأهبين لما يطلبون به من الغزو والجهاد؛ ورسمنا لهم أن يلحقوا بنا عند الاستدعاء، على ما جددنا لهم في الانتخاب والانتقاء، لتأخذ الجموع كلها من محو أثر هذا الخائن بنصيب، وتضرب فيه، وفي كل عمل يعفيه، بسهم مصيب؛ لكن لما تعجل حركته التي تعجل بها الحين، وساقه إليها القدر الذي أعمى البصيرة والعين؛ رأينا أن ننفذ إليه قصدنا، وأن نعاجله بما حضر عندنا، متوافرة الأعداد، غنية عن الاستمداد، غير مفتقرة إلى الازدياد؛ ومع هذا فقد أمرنا أهل الجهات كلها باللحاق بنا، وأن ينهض جميع أعدادهم من الخيل والبطل والرماة على سبيلنا ومذهبنا، لتكون الأيدي في هذه المصلحة العامة واحدة، والعقائد في هذا الضرر عن الكافة متعاقدة، حتى يذهب أثر هذه النكبة وعينها، ويزول عن بهجه الإحقاق والاتفاق شينها؛ وإذا وضب على أهل هذه الجهات أن ينفروا في هذه الدعاة خفافاً وثقالاً، ويبادروا ركباناً ورجالاً، كان الوجوب في حقكم وجوبين، والفرض عليكم فرضين؛ لما يخصكم من هذه المصلحة التي أنتم أولى من يجتلي صورها، ويجتني ثمرها، ويجد في حاله واستقباله إثرها؛ فليكن استعدادكم بحسب ذلكم، واستوعبوا جميع أنجادكم، من خيلكم ورماتكم ورجالكم؛ وكونوا واقفين على قدم التأهب إلى أن يكون الاجتياز من هنالكم؛ إن شاء الله تعالى والسلام.
الأسلوب الثاني: أن تفتتح المكاتبة بلفظ: أما بعد:
وهو على ضربين:
الضرب الأول: أن تعقب البعدية بالحمد لله، ويؤتى على الخطبة إلى آخرها:
ثم يتخلص إلى المقصود ويختم بالسلام على نحو ما تقدم كما كتب أبو عبد اله بن الجيان عن أبي عبد الله بن هود أيضاً إلى أكابر بلده بالرفق بالرعية عند ورود كتابهم عليه بتحصين البلد، وبلوغه جور المستخدمين بها على الرعية، وهو: أما بعد حمد الله تعالى معلي منار الحق ورافعه، ومولي متوالي الإنعام ومتابعه؛ والصلاة على سيدنا محمد عبده ورسوله مشفع الحشر وشافعه، المبعوث ببدائع الحكم وجوامعه؛ وعلى آله وصحبه المبادرين إلى مقاصده العلية ومنازعه، والذابين عن حوزة الإسلام، بمواضي الاعتزام، وقواطعه؛ والرضا عن الخليفة الإمام العباسي أمير المؤمنين ذي المجد الذي لا ينال سمو مطالعه.
فإنا كتبنا إليكم- كتب الله لكم عزة قدحها بالثبوت فائز، وسعادة قسطها للنماء حائز- من فلانة، وكلمة الحق منصورة اللواء، منشورة الأضواء؛ والتوكل على اله في الإعادة والإبداء، والتسليم إليه مناط أمرنا في الانتهاء والابتداء، وحمد الله تعالى وشكره وصلنا إلى نيل مزيد النعماء والآلاء؛ ومكانتكم لدينا مكانة السني المناصب، المنتمي إلى كرام المنتميات والمناسب، المتحلي في الغناء والاكتفاء، والخلوص والصفاء، بأكرم السجيات والمناقب، المعلوم ما لديه من المصالحة السالكة بأكرم السجيات في المناحي الحسان على المهيع الآوضح والسنن اللاحب وقد وقفنا على كتابكم معلماً بخبر فلانة وما رأيتموه من المصلحة في تحصينها، والاجتهاد في أسباب تأمينها؛ ونحن نعلم أنكم تريدون الإصلاح، وتتوخون ما تتوسمون فيه النجاح؛ لكن أهم الأمور عندنا، وأولى ما يوافق غرضنا وقصدنا، الرفق بالرعية، وحملها على قوانين الإحسان المرعية- وعلى أثر وصول كتابكم وصلنا كتاب أهل فلانة المذكورة يشكون ضرر الخدمة المتصرفين فيهم، ويتظلمون من متحيفيهم ومتعسفيهم؛ وفي هذا ما لا يخفى عليكم، ولا ترضون به لو انتهى إليكم؛ فإنه إذا كان الناظر في خدمة ممن لا يحسن سياسة الأمور، ولا يعلم طريقة الرفق الجارية بوفق الخاصة والجمهور، أعاد التسكين تنفيراً، والتيسير تعسيراً، وتعلمون أنا لا نقدم على إيثار العدل في عباد اله المسلمين عملاً، ولا نبغي لهم باطنة بغير التخفيف عنهم والإحسان إليهم بدلاً؛ وأنتم أولى من يعتقد فيه أنه يكمل هذا المقصد، ويتحرى في مصالح الرعاية هذا السنن الأرشد؛ وقد خاطبنا أهل فلانة بما يذهب وجلهم، يبسط أملهم، وعرفناهم بأنكم لو علمتم من جار عليهم من الخدمة لأخذتم على يده وجازيتموه بسوء معتقده، وأشعرناهم بأنا قد استوصيناكم بهم خيراً، ونبهناكم على ما يدفع عنه ضيماً ويرفع ضيراً؛ وأنتم- إن شاء الله- تستأنفون نظراً جميلاً، وتؤخرون عنهم الخدمة الذين لا يسلكون من السياسة سبيلاً، وتقدمون عليهم من تحسن فيهم سيرته، وتكرم في تمشيته الرفق علانيته وسريرته، ومثلكم لا يؤكد عليه في مذهب تحسن عواقبه، وغرض يوافقه القصد الاحتياطي ويصاحبه، إن شاء الله تعالى والسلام.
الضرب الثاني: أن تعقب البعدية بذكر المقصود من غير خطبة:
ثم يؤتى على المقصود إلى آخره على نحو ما تقدم كما كتب أبو عبد الله محمد بن عبد الله القضاعي المعروف بالأبار، عن الأمير أبي جميل إلى أهل ناحية بولاية وال عليهم وهي: أما بعد، فالكتاب- كتب الله لكم ملء الجوانب قراراً، وأرسل عليكم سماء المواهب مدراراً- من فلانة، وليس إلا الخير الدائم، واليسر الملازم؛ وقد توالى إعلامم بالغرض الجميل فيكم، والاعتناء المتصل بتمهيد نواحيكم، وأنتم اليوم بثغر متحيف، وجناب متطرف، يتضاعف الاحتياط عليه، ويجب تيسير المير إليه؛ فالنظر له معمل، والتهمم به لا يهمل؛ وهذه ألسن قد ملك قيادها، وأوثر بوجوه القرابة إمدادها، وفلان قد خاطب يستأذن في القدوم على الباب الكريم، ويؤكذ ما عنده في الخدمة والتصميم؛ والخيرات بسبيل الاتصال، والمسرات واردة مع البكور والآصال.
والحمد لله الجسيم فضله، والعظيم نيله، فاحمدوا الله على ما يسر لنا ولكم، واستوزعوه شكر ما خولنا وخولكم؛ واعلموا أنا نرعاكم كما رعى أولنا أولاكم؛ وقدعين لموضعكم كذا وكذا فأنفذوا إلينا بعضكم معجلا، واستشعروا إنماء الأثرة واطراد النصرة، حالاً ومستقبلاً؛ والحركة الكبرى- يمنها الله- قد شرع في أسبابها، وأتي ما يؤتي بمشيئة الله الفتح القريب من بابها؛ ولا غنى بما يدار في ذلك عن فلان وقد خوطب بالوصول، ووجه إليكم فلان والياً عليكم، وثاوياً لديكم؛ وهو ممن خبرت كفايته، وارتضيت لجبر أحوالكم سياسته، وشكر هنا فأوثرتم به هنالكم؛ وقد فوض إليكم من نظر لخاصتكم وجمهوركم، وقلد بما يستقل أتم الاستقلال من تدبير أموركم؛ وأمضي معه من الأجناد طائفة يحسنون الدفاع والذياد، ولا يفارقون الجد والاجتهاد؛ ووراء هذا من كريم العناية وجميل النظر، ما يقضي لكم بالفلج والظفر، ويديلكم بالأمانة الشاملة من الذعر والحذر، إن شاء الله تعالى والسلام.
الأسلوب الثالث: أن تفتتح المكاتبة بلفظ: كتابنا إليكم من موضع كذا:
والأمر على كذا وكذا ويؤتى على المقصد إلى آخره ويختم بالسلام وربما قيل: هذا كتابنا إليكم، وربما قيل: كتبنا إليكم ونحو ذلك كما كتب أبو المطرف بن عميرة عن ابن هود في البشارة بفتح حصن، وهو: كتابنا إليكم- أطلع الله عليكم من البشائر أنورها جبيناً، وأوصحها صبحاً مبيناً- من فلانة في يوم كذا.
سلام عليكم فإني أحمد إليكم الله الذي تكفل بنصر من ينصره، ونصلي على سيدنا محمد الكريم محتده الزاكي عنصره؛ ونجدد مشفوع الصلوات، ونردد مرفوع الدعوات، للإمام الخليفة المستنصر بالله أمير المؤمنين ذي المناقب التي لا عاد يعدها، ولا حاصر يحصرها.
والحمد لله الذي أنعم علينا بتقليد إمامته، التي لا تعقد معها إمامه، وأقامنا لإقامة دعوته، التي لا تجوز على غيرها إقامة، وجعلنا نرمي الغرض باسمه الأشرف فنصيبه، ونستوهب فضل الله سبحانه فيتوفر قبلنا نصيبه، ونستنزل بخلافته المباركة جوامع النصر، كما استنزل الفارق بغرة جده هوامع القطر؛ فتسير أمام رايته السوداء بالأثر المبيض، وتروي هذه أوام كما أروى ذلك أوام الأرض؛ وما زلنا منذ كان النزول على هذا الحصن نتعرف فيه من مخايل النجح، ودلائل الظفر والفتح، ما أعطانا فثلج اليقين بأنا نفصم عروته، ونفرع ذروته، ولم يزل العزم يذلل شماسه، ويقلل ناسه؛ حتى أذعنوا لما عرفتم به من النزول لوقت معدود، وأمد محدود. ثم إنهم خامرهم طارق الوجل، فعجلوا أداء دينه قبل حلول الأجل؛ وأمكن الله من هذا المعقل الفذ في المعاقل، وقتل الظانين لامتناعهم والحسام إن شاء الله تعالى في يد القاتل؛ وقد صعدت راياتنا على السور، وسعدت إدارتنا بالعزم المنصور، وشيد الله من هذا الفتج الجليل أقصى الفتوح بعلو، وأشجاها للعدو، وأدلها على نجح عمل مستأنف وبلوغ أمل مرجو.
والحمد لله رد حقنا المغتصب، وكفانا في وجهنا هذا التعب والنصب؛ وعرفناكم بهذا الخبر الذي هو غذاء للروح، والمنبي، عن فتح الفتوح: لشكروا الله عليه شكراً، وتوفوه حقه إذاعة له ونشراً، وتجددوا بحمد الله على ما أولى من خالص النعم، ووافر القسم، ما يطيب به المعرس والمقبل، ويستقصر به الأمد الطويل. واكتبوا من خطابنا هذا نسخاً إلى الجهات ليأخذ منها كل بحظه، وينعم القريب والبعيد بجلالة معناه وجزالة لفظه؛ أعاننا الله وإياكم على شكر إحسانه الجزيل، ولا أخلى من لطفه العميم ونظره الجميل، بمنه والسلام.
الحالة الثانية: ما الأمر مستقر عليه الآن مما كان عليه علامة متأخري كتاب المغرب أبو عبد الله محمد بن الخطيب وزير ابن الأحمر صاحب حمراء غرناطة من الأندلس:
والأمر فيها على نحو ما تقدم في الحالة الأولى: من التعبير عن المكتوب إليه بميم الجمع وإن كان واحداً، والتزام الدعاء بمعنى الكتابة عند قولهم كتبنا إليكم ونحو ذلك. وعادتهم أن يكتب كتاب السلطان في طومار كامل، فإن استوعب الكلام جميع الطومار كتب على حاشيته، ويكتب صاحب العلامة علامة السلطان في آخره، ويطوى طياً عريضاً في نحو ثلاث أصابع معترضة، ثم يكسر ويطوى نصفين، ويكتب العنوان بالألقاب التي في الصدر ويخزم بدسرة من الورق، ثم يختم بخاتم السلطان على شمع أحمر كما تقدم بيانه.
وهي على ثلاثة أساليب:
الأسلوب الأول: أن تفتتح المكاتبة باللقب اللائق بالمكتوب إليه:
وهو على أضرب:
الضرب الأول: أن يبتدأ بلفظ: المقام وهو مختص بالكتابة إلى الملوك:
والرسم فيه عندهم أن يقال: المقام وينعت بما يليق به، ثم يقال: محل أخينا، أو محل ولدنا، أو محل والدنا السلطان ويؤتى بألقابه ثم يسمى؛ ثم يقال: فلان ويفعل فيه كذلك منتهى نسبه، ويدعى له بالبقاء وما يتبعه؛ ثم يقال: معظم قدره أو معظم مقامه، وما أشبه ذلك، ويذكر اسم المكتوب عنه؛ ثم يقال: أما بعد حمد الله ويؤتى بالخطبة إلى آخرها؛ ثم يقال: فإنا كتبناه إليكم من موضع كذا، ويؤتى على المقصود إلى آخره، ويختم بالدعاء ثم بالسلام.
كما كتب أبو عبد الله بن الخطيب المقدم ذكره عن سلطانه ابن الأحمر المذكور أعلاه، إلى السلطان أبي عناه بن أبي الحسن المريني صاحب فاس، عند موت الطاغية ملك قشتالة من إقليم أشبيلية، وطليطلة، وقرطبة وما معها بعد نزوله على جبل الفتح من مملكة المسلمين بالأندلس لمحاربة المسلمين فيه، ورحيل قومه بعد موته به، وهو: المقام الذي أنارت آيات سعده، في مسطور الوجود، وتبارت جياد مجده، في ميدان البأس والجود، وضمنت إيالته لمن بهذه الأقطار الغربية تجديد السعود، وإعادة العهود، واختلفت كتائب تأييد الله ونصره لوقته المشهور فيها ويومه المشهود، مقام محل أخينا الذي نعظمه ونرفعه، ويوجب له الحق العلي موضعه، السلطان أبي عنان ابن السلطان أبي الحسن، ابن السلطان أبي سعيد، ابن السلطان أبي يوسف، بن عبد الحق- أبقاه الله يتهلل للبشرى جنابه، ويفتح لوارد الفتح الإلهي بابه؛ وتعمل في سبيل الله مكارمه وعزائمه وركابه، ويتوفر بالجهاد فيه مجده وسعده وفخره وثوابه، ومعظم قدره الأمير عبد الله يوسف ابن أمير الملمين أبي الوليد إسماعيل بن فرج بن نصر، سلام كريم مشفوع بالبشائر والتهاني، محفوف الركاب ببلوغ الأماني، ورحمة الله تعالى وبركاته.
أما بعد حمد الله مطلع أنوار الصنائع العجيبة متألقة الغرر، ومنشيء سحائب الألطاف، الكريمة الأوصاف، هأمية الدرر، الكريم الذي يجيب دعوة المضطر إذا دعاه، ويكشف السؤء وما أمره إلا واحدة كلمح بالبصر؛ حجب كامن ألطافه عن قوى الفطن ومدارك الفطر، فما يعلم جنود ربك إلا هو وما هي إلا ذكرى للبشر.
والصلاة والسلام على سيدنا ومولانا محمد رسوله ذي المعجزات الباهرة والآيات الكبر، الذي بجاهه الحصين نمتنع عند استشعار الحذر، وبنور هداه نستضيء عند التباس الورد والصدر فنحصل على الخير العاجل والمنتظر، والرضا عن آله وأصحابه الكرام الأثر، الذين جنوا من أفنان الصبر في الله ثمار الظفر، وفازوا من إنجاز الوعد بأقصى الوطر، وانتظموا فيسلك الملة الرفيعة انتظام الدرر، والدعاء لمقامكم الأعلى بابصال المسرات وتولىي البشر، والسعد الذي تجري بأحكامه النافذة تصاريف القدر، والصنع الذي تجلى عجائبه في أجمل الصور، فإنا كتبناه إليكم- كتب الله لكم من حظوظ فضله وإحسانه أجزل الأقسام، وعرفكم عوارف نعمة الثرة وآلائه الجسام- من حمراء غرناظة- حرسها الله- واليسر بفضل الله طارد الأزمات بعد ما قعدت، وكاشف الشدائد بعدما أبرقت وأرعدت. ثم ما عندنا من الاعتداد بإيالتكم التي أنجزت لنا في الله ما وعدت، ومددنا إليها يد الانتصار على أعدائه فأسعدت، إلا الصنع العجيب، واليسر الذي أتاح ألطافه السميع المجيب؛ واليمن الذي رفع عماده التيسير الغريب، ومد رواقه الفرج القريب؛ وإلى هذا أيدكم الله على أعدائه، وأجزل لديكم مواهب آلائه، وحكم للإسلام على يديكم بظهوره واعتلائه، وعرفكم من أخبار الهني المدفع وأنبائه كل شاهد برحمته واعتنائه. فإنا كتبناه إليكم نحقق لديكم البشرى التي بمثلها تنضى الركاب، ويخاض العباب، ونعرض عليكم ثمرة سعدكم الجديد الأثواب، المعتح للأبواب، علماً بما عندكم من فضل الأخلاق، وكرم الأعراق؛ وأصالة الأحساب، والمعرفة بمواقع نعم الله التي لا تجري لخلقه على حساب، والعناية بأمور هذا القطر الذي تعلق أذيال ملككم السامي الجناب. وقد تقرر لدى مقامكم الأسنى ما كانت الحال آلت إيه بهذا الطاغية الذي غره الإمهال والإملاء، وأقدمه على الإسلام التمحيص المكتوب والابتلاء؛ فتملأ تيهاً وعجباً، وارتكب من قهر هذه الأمة المسلمة مركباً صعباً، وكتائب بحره تأخذ كل سفينة غصباً، والمخاوف قد تجاوبت شرقاً وغرباً، والقلوب قد بلغت الحناجر غماً وكرباً، وجبل الفتح الذي هو باب هذه الدار، وسبب الاستعداء على الأعداء والانتصار، ومسلك الملة الحنيفية إلى هذه الأقطار، قد رماه ببواثقه، وصير ساحته مجر عواليه ومجرى سوابقه؛ واتخذه دار مقامه، وجعله شغل يقظته وحلم منامه، ويسر له ما يجاوره م المعاقل إملاء من الله لأيامه؛ فاستقر به القرار، واطمأنت الدار، وطال الحصار وعجزت عن نصره الخيل والأنصار، ورجمت الظنون وساءت الأفكار، وشجر نظار القلوب الاضطرار، إلى رحمة الله والافتقار، فجبر الله الخواطر لما عظم بها الانكسار، ودار بإدالة الإٍسلام الفلك الدوار، وتمخض عن عجائب صنع الله الليل والنهار، وهبت نواسم الفرج، عاطرة الأرج، ممن يخلق ما يشاء ويختار، لا إله إلا هو الواحد القهار.
وبينما نحن نخوض من الشفقة على ذلك المعقل العزيز على الإسلام لجة مترأمية المعاطب ونقتعد صعباً لا يليق بالراكب؛ ولولا التعلق بأسبابكم في أنواء تلك الغياهب، وما خلص إلى هذه البلاد من مواهبكم الهأمية المواهب، ومواعيدكم الصادقة ومكارمكم الغرائب، وكتبكم التي تقوم عند العدو مقام الكتائب، وإمدادكم المتلاحق تلاحق العظام الجنائب، لما رجع الكفر بصفقة الخائب، إذ تجلى نور الفرج من خلال تلك الظلمة، وهمت سحائب الرحمة والنعمة على هذه الأمة، ورمى الله العدو بجيش من جيوش قدرته أغنى عن العديد والعدة، وأرانا رأي العيان لطائف الفرج من بعد الشدة، وأهلك الطاغية حتف أنفه، وقطع به عن أمله قاطع حتفه، وغالته أيدي المنون في غيله، وانتهى إلى حدود القواطع القوية والأشعة المريخية نصير دليله، فشفى الله منه داء، وأخذه أشد ما كان اعتداداً واعتداء، وحمى الجزيرة الغربية وقد صارت نهبة طغاته، وأشرقه بريقه وهي مضغة في لهواته؛ سبحانه لا مبدل لكلماته.
فانتثر سلكه الذي نظمه، واختل تدبيره الذي أحكمه، ونطقت بتبار محلاته ألسنة النار، وعاجلت انتظامها أيدي الانتثار، وركدت ريحه الزعزع من بعد الإعصار، وأصبح من استظهر به من الأشياع والأنصار {يخربون بيوتهم بأيديهم وأيدي المؤمنين فاعتبروا يا أولي الأبصار} وولوا به يحثون التراب فوق المفارق والترائب، ويخلطون تبر السبال الصهب بذوب الذوائب، قد لبسوا المسوح حزناً، وأرسلوا الدموع مزناً، وشقوا جيوبهم أسفاً، وأضرموا قلوبهم تلهفاً، ورأوا أن حصن استطبونة لا يتأتى لهم به امتناع، ولا يمكنهم لمن يرومه من المسلمين دفاع، فأخلوه من سكانه، وعاد فيه الإسلام إلى مكانه، وهو ما هو من طيب البقعة، وانفساح الرقعة؛ ولو تمسك به العدو لكان ذلك الوطن بسوء جواره مكدوداً، والمسلك إلى الجبل- عصمه الله- مسدوداً، فكان الصنيع فيه طرازاً على عاتق تلك الحلة الضافية، ومزيداً لحسنى العارفة الوافية، فلما استجلينا غرة هذا الفتح الهني، والمنح السني، قابلناه بشكر الله تعالى وحمده، وضرعنا إليه في صلة نعمة فلا نعمة إلا من عنده؛ وعلمنا أنه عنوان على مزيد ملككم الأعلى وعلامة على سعده، وأثر نيته للإسلام وحسن قصده، وفخر ذخره الله لأيامكم لا نهاية لحده، فإنكم صرفتم وجه عنايتكم إلى هذا القطر على نأي المحل وبعده، ولم تشغلكم الشواغل عن إصلاح أن وإجزال رفد.
وأما البلد المحصور، فظهر فيه من عزمكم الأمضى ما صدق الآزال والظنون، وشرح الصدور بمقامكم وأقر العيون: من صلة الإمدادعلى الخطر، وتردد السابلة البحرية على بعد الوطن وتعذر الوطر، واختلاف الشواني التي تسري إليه سرى الطيف، وتخلص سهامها إىل غرضه بعد أنى وكيف، حتى لم تعدم فيه مرفقة يسوء فقدانها، ولا عدة يهم شأنها؛ فجزاؤكم عند الله موفور القسم، وسعيكم لديه مشكور الذمم؛ كافأ الله أعمالكم العالية الهمم، وخلالكم الزاكية الشيم؛ فقد سعد الإسلام- والحمد لله- بملككم الميمون الطائر، وسرت أنباء عنايتكم بهذه البلاد كالمثل السائر؛ وما هو إلا أن يستتب اضطراب الكفار واختلافهم، ويتنازع الأحر أصنافهم، فتغتنمون إن شاء الله فيه الغرة التي ترتقبها الزائم الشريفة، والهمم المنيفة؛ وتجمع شيمكم الغليا، بين فخر الاخرة والدنيا، وتحصل على الكمال الذي لا شرط فيه ولا ثنيا؛ فاهنأوا بهذه النعمة التي خبأها الله إلى أيامكم، والتحفة التي بعثها السعد إلى مقامكم، فإنما هي بتوفيق الله ثمرة إمدادكم، وعقبى جهادكم؛ أوزعنا الله وإياكم شكرها وألهمنا ذكرها.
عرفناكم بما اتصل لدينا، وورد من البشائر علينا؛ عملاً بما يجب لمقامكم من الإعلام بالمتزيدات، والأحوال الواردات، ووجهنا إليكم بكتابنا هذا من ينوب عنا في هذا الهناء، ويقرر ما عندنا من الولاء، وما يتزيد لدينا بالأنباء، خالصة إنعامنا المتميز بالوسيلة المرعية إلى مقامنا، الحظي لدين، المقرب إلينا، القائد الفلاني أبا الحسن عباداً وصل الله عزته، ويمن وجهته؛ ومجدكم ينعم بالإصغاء إليه، فيما أحلنا فيه من ذلك عليه، والله يصل سعدكم ويحرس مجدكم؛ والسلام.
وكما كتب عنه أيضاً إلى السلطان أبي سعيد عثمان ين يغمراسن صاحب بلمسن، عند بعثه بطعام إلى الأندلس، شاكراً له على ذلك، ومخبراً بفتح حصن من حصون الندلس يسمى حصن قنيط، وهو: المقام الذي تحدثت بسعادته دولة أسلافه، واتفق به قولها من بعد اختلافه، وعاد العقد إلى انتظامه والشمل إلى ائتلافه؛ مقام ولينا في الله الذي هيأ الله له من جميل صنعه أسباباً، وفتح به من مبهم السعد أبواباً؛ وأطلع منه في سماء قومه شهاباًً. وصفينا الذي نسهب القول في شكر جلاله ووصف خلاله إسهاباً؛ السلطان أبو سعيد عثمان، ابن الأمير أبي زيد، ابن الأمير أبي زكريا ابن السلطان أبي يحيى يغمراسن، بن زيان، مع ذكر ألقاب كل منهم بحسبه- أبقاه الله للدولة الزيانية- يزين بالأعمال الصالحة أجيادها، ويملك بالعدل والإحسان قيادها، ويجري في ميدان الندى والباس، ووضع العرف بين الله والناس، جيادها. سلام كريم كما زحفت للصباح شهب الموكب، وتفتحت عن نهر المجرة أزهار الكواكب؛ ورحمة الله تعالى وبركاته.
أما بعد حمد الله جامع الشمل بعد انصداعه وشتاته، وواصل الحبل بعد انقطاعه وانبتاته؛ سبحانه لا مبدل لكلماته، والصلاة على سيدنا ومولانا محمد رسوله الصادع بآياته، المؤيد ببيناته، الذي اصطفاه لحمل الأمانة العظمى، وحباه بالقدر الرفيع والمحل الأسمى؛ والله أعلم حيث يجعل رسالاته. والرضا عن آله وصحبه وأنصاره وحزبه وحماته، المتواصلين في ذات الله وذاته، القائمين بنصر دينه وقهر عداته. فإنا كتبناه إليكم- كتب الله لكم سعداً ثابت الأركان، وعزاً سامي المكان، ومجداً وثيق البنيان، وصنعاً كريم الأثر والعيان- من حمراء غرناطة- حرسها الله- والثقة بالله سبحانه أسبابها وثيقة، وأنسابها عتيقة، والتوكل عليه لا تلتبس من سالكه طريقه ولا تختلط بلمجاز من حقيقة؛ وعندنا من الاعتداد بكم في الله عقود مبرمة، وآي في كتاب الإخلاص محكمة؛ ولدينا من السرور، بما سناه الله لكم من أسباب الظهور، الذي حلله معلمه، وحججه البالغة مسلمة، ما لا تفي العبارة ببعض حقوقه الملتزمة؛ وإلى هذا- أيد الله أمركم- فإننا وزد علينا فلان وصل الله كرامته، وسنى سلامته، صادراً عن جهتكم الرفيعة الجانب، السامية المراقب، طلق اللسان بالثناء بما خصكم الله به من فضل الشمائل وكرم المذاهب، محدثاً عن بحر مكارمكم بالعجائب، فحضر بين يدينا ملقياً ما شاهده من ازدياد المشاهد، بتلك الإياله، واستبشار المعاهد، بعودة ذلك الملك الرفيع الجلالة، الشهير الأصالة؛ ووصل صحبته ما حملتم جفنة من الطعام برسم إعانة هذه البلاد الأندلسية، والإمداد الذي افتتحتم به ديوان أعمالكم السنية، وأعربتم به عما لكم في سبيل الله من خالص النية؛ وأخبر أن ذلك إنما هو رشة من غمام، وطليعة من جيش لهام، ووفد من عدد، وبعض من مدد، وأن عزائمكم في الإعانة والإمداد على أولها، ومكارمكم ينسى الماضي منها بمستقبلها؛ فأثنينا على قصدكم الذي لله أخلصتموه، وبهذا العمل البر خصصتموه، وقلنا: لا ينكر الفضل على أهله، وهذا بر صدر عن محله؛ فليست إعانة هذه البلاد الجهادية ببدع من مكارم جنابكم الرفيع، ولا شاذة فيما أسدى على الأيام من حسن الصنيع؛ فقد علم الشاهد والغائب، ولو سكتوا أثنت عليها الحقائب، ما تقدم لسلفكم في هذه البلاد من الإرفاق والإرفاد، والأخذ بالحظ الموفور من المدافعة والجهاد؛ وأنتم أولى من جدد عهود قومه، وكان غده في الخفر أكبر من يومه؛ وقد ظهرت لله في حيز تلك الإيالة الزيانية نتيجة تلك المقدمات، وعرفت بركة ما أسلفته من المكرمات. وسنى الله سبحانه بين يدي وصول ما به تفضلتم، وفي سبيله بذلتم، أن فتح جيشنا حصناً من الحصون المجاورة لغربي مالقة يعرف بحصن قنيط من الحصون الشهيرة المعروفة، والبقع المذكورة بالخصب الموصوفة؛ ودفع الله مضرته عن الإسلام وأهله، ويسره بمعهود فضله؛ فجعلنا من ذلك الطعام الذي وجهتم طعمة حماته، ونفقات رجاله ورماته؛ اختياراً له في أرضى المرافق في سبل الخير وجهاته. وأما نحن فإن ذهبنا إلى تقرير ما عندنا من الثناء، على معالي ملككم الأصيل البناء، والاعتداد بمقامكم الرفيع العماد، والاستناد إلى ولائكم الثابت الإسناد، لم نبلغ بعض المراد، ولا وفى اللسان بما في الفؤاد؛ فمن الله نسأل أن يجعله في ذاته، وذريعة إلى مرضاته؛ ومرادنا من فضلكم العميم، ووجكم السليم، أن تحسبوا هذه الجهة كجهتكم فيما يعرض من الأغراض: لنعمل في تتميمها بمقتضى الود العذب الموارد، الكريم الشواهد؛ والله يصل سعدكم، ويحرس مجدكم، والسلام.
الضرب الثاني: أن يقع الابتداء بالمقر:
والرسم فيه أن يقال: المقر، وينعت، ثم يقال: مقر فلان، وينعت بالألقاب، ثم يذكر المكتوب عنه. ثم يقال: أما بعد حمد الله، ويؤتى على الخطبة إلى آخرها؛ ثم يقال: فإنا كتبناه لكم من موضع كذا، ويتخلص إلى المقصد بلفظ: وإلى هذا فإن كذا وكذا، ويؤتى على المقصد إلى آخره ويختم بالسلام.
كما كتب ابن الخطيب عن سلطانه ابن الأحمر إلى عجلان سلطان مكة شرفها الله تعالى وعظمها، وهو:
المقر الأشرف، الذي فضل الحال الدينية محله، وكرم في بئر زمزم منبط إسماعيل صلى الله عليه وسلم نهله وعله، وخصه بإمرة الحرم الشريف الأمين من بيده الأمر كله، فأسفر عن صبح النصر العزيز فضله، واشتمل على خواص الشرف الوضاح جنسه وفصله، وطابت فروعه لما استمد من ريحانتي الجنة أصله.
مقر السلطان الجليل، الكبير، الشريف، الطاهر، الظاهر، الأمجد، الأسعد، الأوحد، الأسمى الشهير البيت، الكريم الحي والميت، الموقر، المعظم، ابن الحسين، وحافد سيد الثقلين؛ تاج المعالي، عز الدنيا والدين، أبي السبق عجلان، ابن السلطان الكبير، الشهير، الرفيع، الخطير، الجليل، المثيل، الطاهر، الظاهر، الشريف، الأصيل، المعظم، الأرضى، المقدس، المنعم، أسد الدين، أبي الفضل رميثة بن محمد بن أبي سعيد الحسني- أبقاه الله، وجعل أفئدة من الناس تهوي إلى قاطني مثواه، على بعد الدار، وتتقرب فيه إلى الله بالتئام التراب واستلام الجدار، وتجيب أذان نبيه إبراهيم بالحج إجابة الابتدار؛ وهنأه المزية التي خصه بها من بين ملوك الأقطار، وأولي المراتب في عباده والأخطار؛ كما رفع قدره على الأقدار، وسجل له بسقاية الحج وعمارة المسجد الحرام عقد الفخار. وينهي إليه أكرم التحيات تتأرج عن شذا الروضة المعطار، عقب الأمطار، معظم ما عظم الله من شعائر مثواه، وملتمس البركة من أبواب مفاتحته ولكل امرئ ما نواه؛ وموجب حقه الذي يليق بمن البتول والرضا أبواه، الشيق إلى الوفادة عليه وإن مطله الدهر ولواه؛ فلان. كان الله له في غربته وانفراده، وتولى عونه على الجهاد فيه حق جهاده.
أما بعد حمد الله ولي الحمد في الأولى والآخرة، ومطمح النفوس العالية والهمم الفاخرة؛ مؤيد العزائم المتعاضدة في سبيله المتناصرة، ومعز الطائفة المؤمنة ومذل الطائفة الكافرة، ومنيل القياصرة الغلب والأكاسرة، وتارك أرضها الآذان السامعة والعيون الباصرة.
والصلاة على سيدنا ومولانا محمد عبده ورسوله نبي الرحمة الهأمية الهامرة، والبركات الباطنة والظاهرة، المجاهد في سبيل الله بالعزائم الماضية والصوارم الباترة، مصمت الشقاشق الهادرة، ومرغم الضلالة المكابره، المنصور بالرعب من جنود ربه الناصره، المحروس بحرس الملائكة الوافره، الموعود ملك أمته بما زوي له من أطراف البسيطة العامرة، حسب ما ثبت بالدلائل المتواترة.
والرضا عن آله وأحزابه، وعترته وأصحابه، المجاهدة الصابرة، أولي القلوب المراقبة والألسن الذاكرة، والآداب الحريصة على الاهتداء بهداه المثابره، الذين جاهدوا في الله حق جهاده يخوضون، لأن تكون كلمة الله هي العليا، بحار الروع الزاخرة؛ ويقدمون بالجموع القليلة على الآلاف المتكاثره، حتى قرت بظهور الإسلام العيون الناظره، وحلت في العدو الفاقرة، فكانوا في الذب عن أمته كالأسود الكاسرة، وفي الهداية بسماء ملته كالنجوم الزاهرة.
والدعاء لشرفكم الأصيل المناسب الطاهرة، والمكارم الزاهية ببنوة الزهراء البتول بضعة الرسول الزاهرة، بالصنع الذي يسفر عن الغرر المشرقة السافرة، والعز الذي يضفو منه الجناح على الوفود الوافرة، والفضلاء من المجاورة، ولا زال ذكركم بالجميل هجيرى الركائب الواردة والصادرة، والثناء على مكارمكم يخجل أنفاس الرياض العاطرة، عقب الغمائم الماطرة.
فإنا كتبناه إليكم- كتب الله لكم عناية تحجب الأسواء بجننها الساترة، ورعاية تجمع الأهواء المختلفة والقلوب المتنافرة- من حمراء غرناطة دار الملك الإسلامي بالأندلس- حرسها الله ووفر جموع حاميتها المثاغرة- ويد بيد قدربه ما هم بها من أفواه العدى الفاغرة، ولا زالت سحائب رحمة الله الحائطة لها الغامرة، تظلل جموع جهادها الظافرة، وتجود رمم شهدائها الناخرة، ونعم الله تحط ركائب المزيد في نواديها الحامدة الشاكرة.
والحمد لله كما هو أهله، فلا فضل إلا فضله. وجانبكم موفى حقه من التعظيم الذي أناف وأربى، وقدركم يعرفه من صام وصلى فضلاً عمن حج ولبى، ومستند ودكم {قل لا أسألكم عليه أجراً إلا المودة في القربى}. وإلى هذا- حرس الله مجدكم ومقركم الأشرف، كما سحب على البيت العتيق ظلكم الأورف- فإن الجهاد والحج أخوان، يشهد بذلك الملوان؛ مرتضعان ثدي المناسبة، ويكادان يتكافآن في المحاسبة: سفراً وزاداً، ونية واستعداداً، وإتلافاً لمصون المال وإنفاداً، وخروجاً إلى الله لا يؤثر أهلاً ولا ولداً وإن افترقا محلاً فقد اجتمعا جهاداً، ورفعا للملة مناراً سامياً وعماداً، ووطننا- والحمد لله- على هذا العهد المخصوص بكمال هذه المزية، والقيام بفرض كفايتها البحرية والبرية عن جميع البرية، السليمة من الضلال البرية وهذا النسب واشجة عروقه، صادقة بروقه، متاته لا يفضله متات ولا يفوقه. ونحن نعرفكم بأحوال هذا القطر المستمسكة فروعه بتلك الجرثومة الراسيه، الممدودة أيديه إلى مثابتها المتصدقة بالدعاء المواسيه؛ فاعلموا أن الإسلام به مع الحياة في سفط حرج، وفي أمر مرج؛ وطائفة الحق قليل عددها، منقطة إلا من الله مددها، مستغرق يومها في الشدة وغدها؛ فالطلائع في قنن الجبال تنور، والمصحر من بيته مغرر؛ والصيحة مع الحيان مسموعة، والأعاء لرد ما استخلصه الفتح الأول مجموعة؛ والصبر قد لبست مداره، والنصر قد التمست مشارعه، والشهداء تنوش أشلاءهم القشاعم، وتحتفل منها للعوافي الولائم والمطاعم؛ والصبيان تدرب على العمل بالسلاح، وتعلم أحكام الجهاد تعلم القرآن في الألواح؛ وآذان الخيل مستشرفة للصياح، ومفارق الطائحين في سبيل الله تعالى تبلى بأيدي الرياح، والمآذن تجيبها النواقيس مناقضة، وتراجعها مغاضبة معارضة؛ وعدد المسلمين لا يبلغ من عدد الكفار، عشر المعشار، ولا وبرة من جلود العشار؛ إلا أن الله عز وجل حل بولايتنا المخنق المشدود، وفتح إلى التيسير المهيع المسدود، وأضفى ظلال اليمن الممدود، وألهم- وله الشكر على الإلهام، وتسديد السهام. والحمد لله الذي يفوت مدارك الأفهام- إلى اجتهاد قرن به التوفيق، وجهاد نهج به إلى النجاة المنجية الطريق؛ سبحانه من كريم يلهم العمل ليثيب، ويأمرنا بالدعاء ليجيب؛ فتحركنا حركات ساعدها- ولله المنة- السعد، وتولى أمرها ونصرتها من له الأمر من قبل ومن بعد.
ففتحنا مدينة برغة الفاصلة كانت بين البلاد المسلمة، والشجا المعترض في نحر الكلمة؛ وتبعتها بنات كن يرتضعن أخلاف درتها، ويتعلقن في الحرب والسلم بأرزتها.
ثم نازلنا حصن آش ركاب الغارات الكافرة، ومستقر الشوكة الوافرة، فرفع الله إصره الثقيل، وكان من عثرة الدين فيه المقيل.
ثم قصدنا مدينة الجزيرة بنت حاضرة الكفر، وعرين الأسود الغلب وكناس الظباء العفر؛ فاستبحناها عنوة أضرمت البلاد ناراً، ودارت بأسوارها المنيعة سواراً، واستأصلنا أهلها قتلاً وإساراً، وملأت الأيدي من نقاوة سبي تعددت آلافه، وموفور غنم شذت عن العبارة أوصافه.
ثم كانت الحركة إلى مدينة جيان وشهرتها في المعمور، وشياع وصفها المشهور، تغني عن بسط مالها من الأمور؛ ففتحها الله على يدينا عنوة وجعلت مقاتلتها نهباً للسيوف الرقاق، وسبيها ملكة للاسترقاق، وأهلة مبانيها البيض دريئة للمحاق، واستولت على جميعها أيدي الهدم والإحراق؛ ثم دكت الأسوار، وعقرت الأشجار، واستخلف على خارجها النار، فهي اليوم صفصف ينشأ بها الاعتبار، وتعجب الأبصار.
وغزونا بعدها مدينة أبدة أختها الكبرى، ولدتها ذات المحل الأسرى؛ وكانت أسوة لها في التدمير، والتتبير والعفاء المبير.
ثم نازلنا مدينة قرطبة وهي أم هذه البلاد الكافرة، ودار النعم الوافرة، وذات المحاسن السافرة؛ فكدنا نستبيح حماها المنيع، ونشتت شملها الجميع، ونحتفل بعتحها الذي هو للدين أجل صنيع، لولا عوائق أمطار، وأجل منته إلى مقدار؛ فرحلنا عنها بعد انتهاك زلزل الطود، ووعدناها العود؛ ونؤمل من فضل الله إنفاذ البشرى بفتحها على بلاد الإسلام، ومتاحفة من بها من الملوك الأعلام، بالإخبار به والإعلام. وبلغ من صنع الله لنا وهو كاف من توكل عليه، وفوض الأمور إليه، أن لا طفنا النصر بحصون أربعة لم نوجف عليها ركابا ولا تملكتها غلابا؛ فطهرنا بيوت الله من دنس الأوثان، وعوضنا النواقيس بكلمة الإيمان. والحمد لله على مواهب الامتنان، ومنه نستزيد عوائد الإحسان.
وهذه المجملات تحتمل شرحاً، تسبح في بحره سنان الأقلام سبحا، من أوصاف مغانم شذت عن الحصر، ومواقف لتنزل السكينة وهبوب النصر، وما ظهر من جد المسلمين في افتتاح تلك المعاقل المنيعة المنيفة، ومقارعة الجموع الكثيفة؛ وبركة الحرم الشريف في كل حال موجودة، وأقطار الإسلام يها مجودة، والوسائل إلى الله بأهله في القديم والحديث لا مخيبة ولا مردودة؛ فهو الأصل، والغمد الذي سل منه النصل؛ حتى بلغ التخوم القاصية، وذلل المالك المتعاصية، وقاد من تقاعد أو تقاعس بالناصية.
وقد ظهر لنا أن نوجه إلى المدينة المقدسة صلوات الله على من بها وسلامه رسالة نعرفه بهذه البركات الهأمية من سماء عنايته المعدود خارقها آية من آياته، وكلنا جناه، وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله بهداه؛ وأصحبناها أشخاصاً من نواقيس الفرنج مما تأتى حمله، وأمكن نقله؛ وما سواه فكانت جبالاً، لا يقبل نقلها احتيالاً؛ فتنأول درعها المسخ والتكسير، وشفي بذهاب رسومها الاقامة والتكبير، والأذان الجهير؛ ومرادنا أن تعرض بمجتمع الوفود تذكرة تستدعي الإمداد بالدعاء، وتقتضي بتلك المعاهد النصر على الأعداء؛ ثم تصحب ركات الزيارة، إلى أبواب النبوة ومطالع الإنارة؛ وأنتم تعلمون في توفية هذه الأحوال ورعايتها، وإبلاغها إلى غايتها، ما يليق بحسبكم الوضاح، ومجدكم الصراح، وشرفك المتبلجة أنواره تبلج الإصباح:
فأنتم خير من ركب المطايا ** وأندى العالمين بطون راح

ولكم بذلك الحظ الرغيب في هذه الأعمال البرة، والله سبحانه لا يضيع مثقال الذرة؛ وهو سبحانه يتولاكم بماتولى به من أعز شعاره وعظمها، ورعى وسائله واحترمها؛ ويصل أسباب سعدكم، وينفعكم بقصدكم. والسلام الكريم، الطيب البر العميم، يحيي معاهدكم الكريمة على الله عهودها، النأمية بغمائم الرحمات والبركات عهودها؛ ورحمة الله وبركاته.
وربما قدم على لفظ المقر صلة يعتمد عليها في البداءة.
كما كتب عنه أيضاً في معنى ذلك إلى أمير المدينة النبوية على ساكنها سيدنا محمد أفضل الصلاة والسلام.
يعتمد المقر الأشرف الذي طاب بطيبة نشره، وجل بإمارتها الشريفة أمره، وقدر في الآفاق شرفه وشرف قدره، وعظم بخدمة ضريح سيد ولد آدم فخره، أبقاه الله منشرحاً بجوار روضة الجنة صدره، مشرقاً بذلك الأفق الأعلى بدره ذائعاً على الألسن المادحة في الأقطار النازحة، حمده وشكره، مزرياً بشذا المسك الأذفر في الجمع الأوفر ذكره؛ تحية معظم ما عظم الله من دار الهجرة داره، ومطلع إبداره، الملتمس بركة آهاره، المتقرب إلى الله بحبه وإيثاره. فلان.
أما بعد حمد الله الذي فضل البقع بخضائصها الكريمة ومزاياها، تفضيل الرياض الوسيمة برياها، وجعل منها مثابابت رحمة تضرب إليها العباد آباط مطاياها، مؤملة من الله غفران زلاتها وحط خطاياها؛ وخص المدينة الأمينة بضريح سيد المرسلين فأسعد منها مماتها ومحياها، ورفع علياها.
والصلاة على سيدنا ومولانا محمد ورسوله الكريم، الرؤوف بالمؤمنين الرحيم؛ مطلع أوجه السعادة ببروق محياه، وموضح أسرار النجاة ومبين خفاياها؛ الذي تدارك الخليقة بهديه وكشف بلاياها، ورعى لسنة الله رعاياها، وجمع بين صلاح دينها ودنياها.
والرضا عن آله وصحبه، وعترته وحزبه، التي كرمت سجاياها، وعظمت ألطافها الهادية وهداياها، وجاهدة بعده طوائف الكفار، تشعشع لها في أكواس الشفار، مناياه، وتطلع عليها في الليل البهيم، سنا الصباح الوسيم، من غرر سراياها، وتسد بغمام الأسنة ورياح ذوات الأعنة ثناياه.
والدعاء لمقر أصالتكم الشريفة حياها الله وبياها، كما شرفها بولادة الوصي الذي قرر وصاياها وسلالة النبي الذي أعظم مواهب فخرها منه وعطاياها، بالسعادة التي تبرز أكف الأقدار على مرور الأعصار خباياها، والعز الذي يزاحم فرقد السماء وثرياها.
فإنا كتبناه إليكم- كتب الله لكم من مواهب الصنع الجميل أعياها، كما طيب بذكركم أطراف البسيطة وزواياها، وجعل فخر الجوار الكريم في عقبكم كلمة صدق لا تختلف قضاياها، مامرضت الرياض مورسات عشاياها؛ فجعلت من النواسم مشمومها ومن الأزهار البواسم حشاياها. من حمراء غرناطة- حرسها الله- ونعم الله يحوك حللها الجهاد، والسيوف الحداد، وتلبسها البلاد والعباد، وتتزياها. وفلول الكفر ناكصة على الأعقاب، من بعد شد الوثاق وضرب الرقاب، خزاياها؛ وبركات حرم النبي الوجيه على الله يستظلها الإسلام ويتفياها، وينقع الغلل من رواياها.
والحم لله كثيراً كما هو أهله، فلا فضل إلا فضله؛ ولمعاهدكم الكريمة الارتياح، كلما أومضت البروق وخفقت الرياح؛ ولسني عنايتها الالتماح، إذا اشتجرت الرماح؛ وفي تأميل المثول بها تعمل الأفكار وإن هيض الجناح، وبهداها الاستنارة إذا خفي للمراشد الصباح، وبالاعتمال في مرضاة من ضمه منها الثرى الفواح، والصفيح الذي تراث ساكنه العوامل المجاهدة والصفاح والجهاد الصراح، يعظم في الصدر الانشراح، ويعز المغدى في سبيل الله والمراح.
وإلى هذا أجزل لله مسرتكم بظهور الدين، واعتلاء صبحه المبين؛ فإننا نعرفكم أننا فتح الله علينا وعلى إخوانك المؤمنين بهذه الثغور المنقطعة الغربية، الماتة على الآماد البعيدة بالذمم العربية، فتوحاً حوزت من مملكة الكفر البلاد، ونفلت الطارف والتلاد؛ حسب ما تنصه مخاطبتنا إلى نبينا الكريم الذي شرفكم الله بخدمة لحده، واستخلفكم علىدار هجرته من بعده؛ إذ لا حاجة إلى التكرار بعدما شرحت به الصدور من الأخبار في الإيراد والإصدار؛ ووجهنا صحبتها من النواقيس التي كانت تشيع نداء الضلال، وتعارض الأذان بجلاد الحدال وتبادر أمر التمثال بالامتثال، ما يكون تذكرة تحن بها القلوب إلى هذه الطائفة المسلمة إذا رأتها، وتنتظر قبول الدعاء لها من الله كلما نظرتها، وتتصور الأيدي المجاهدة التي جنتها من أفنان المستشرفات العالية واهتصرتها إذا أبصرتها.
وهذا كله لا يتحصل على التمام إلا بمشاركة منكم تسوغه، وإعانة تؤديه وتبلغه، تشيع لكم عند تعرفها الثناء الدائم الترداد، والدعاء بحسن المكافأة من رب العباد، وسهمكم في أمر الجهاد؛ وأنتم تعملون في ذلك بما يناسب مثلكم من الشرفاء الأمجاد، والله عز وجل يواليكم بنعمه الثرة العهاد، ويعرفكم عوارف السعادة في المبدإ والمعاد، ويختم لنا ولكم بسعادة المعاد؛ والسلام الكريم يخصكم عوداً على بدء ورحمة الله تعالى وبركاته.
الضرب الثالث: أن تفتتح المكاتبة بلفظ الإمارة:
بأن يقال: الإمارة التي نعتها كذا وكذا إمارة محل أخينا فلان، ويدعى له. ثم يقال: معظم إمارته، أو معظم أخوته فلان. سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. أما بعد حمد الله، ويؤتى بخطبة؛ ثم يقال: فإنا كتبناه إليكم كتب الله لكم كذا وكذا من موضع كذا؛ ثم يتخلص إلى المقصود بلفظ وإلى هذا، ويؤتى على القصد إلى آخره، ويختم بالسلام على ما تقم في غيره من الضروب، وبذلك يكتب إلى الأمراء من أبناء الملوك وغيرهم. كما كتب ابن الخطيب عن ابن الأحمر إلى أبي علي الناصر ابن السلطان أبي الحسن المريني بفاس، عندما أرسله والده إلى ناحية من النواحي لعمارتها وإصلاح حالها، مهنئاً له بما أجراه الله على يديه من الصلاح، وهو: الإمارة التي لها المكارم الراضية، والعزائم الماضية، والجلالة الراقية، والأعمال الصالحة الباقية؛ إمارة محل أخينا الذي نعظم مجده السامي الجلال، ونثني على شيمه الطاهرة الخلال، ونعتد بوده الكريم الأقوال والأعمال، ونسر بما يسنيه الله لغزه الفسيح المجال، من عوائد اليمن والإقبال.
الأمير الأجل، الأعز، الأسمى، الأطهر، الأظهر، الأسنى، الأٍسعد، الأرشد، الأرضى، المؤيد، الأمضى، الأفضل، الأكمل، أبو علي الناصر ابن محل أبينا الذي نعظمه ونجله، ونوجب له الحق الذي هو أهله، السلطان الجليل الكذا أبو الحسن ابن السلطان المؤيد، المعان المظفر، صاحب الجود الشهير في الأقطار، والفضل المتألق الأنوار، والمآثر الي هي أبهى من محيا النهار، أمير المسلمين، وناصر الدين، المجاهد في سبيل رب العالمين، أبي سعيد ابن أمير المسلمين وناصر الدين، قامع الكافرين، المجاهد في سبيل رب العالمين، أبي يوسف بن عبد الحق. أبقاه الله والسعود إليه مبتدرة مستبقة، والمسرات لديه منتظمة متسقة؛ وغرر أيامه واضحة مشرقة، والأهواء على محبته متفقة. معظم إمارته الرفيعة الجانب، القائم من إجلالها ونشر خلالها بالحق الواجب، المثني على مالها من السير الفاضلة المذاهب، والأصالة الرفيعة المناسب، والبسالة الماضية المضارب، والمكارم التي تشهد بها مواقف الجهاد، وظهور الجياد، وصحائف الكتب وصفائح الجلاد، الأمير عبد الله يوسف ابن أمير المسلمين، أبي الوليد إسماعيل بن فرج بن نصر. سلام كريم، بر عميم؛ تتأرج الأرجاء من طيب نفحته، ويشرق نور الود الأصيل على صفحته؛ يخص أخوتكم الفاضلة، وإمارتكم الحافلة؛ ورحمة الله وبركاته.
أما بعد حمد الله الذي شرح بالتوكل عليه صدورا، وجعل الود في ذاته كنزاً مذخورا والأعمال التي تقرب إليه نورا، والصلاة على سيدنا ومولانا محمد رسوله الذي بعثه بالحق هادياً وبالرعب منصورا، ورفع لدعوته العالية لواء من عنايته منشورا، واختاره لإقامة دين الحق والأرض قد ملئت إفكاً نزورا، حتى بلغ ملك أمته ما كان منها معمورا.
والرضا عن آله وأحزابه الذين اتسقوا في قلائد ملته الرفيعة شذورا، وطلعوا في سمائها بدورا، وبذلوا نفوسهم النفيسة في نصره وإعلاء أمره فكانت شفاعته لهم جزاء وكان سعيهم مشكورا.
والدعاء لإمارتكم العالية بالسعد الذي يصاحب منه ركابها مدداً موفورا، والتوفيق الذي يوسع عملها نجحاً وأملها سرورا.
فإنا كتبناه إليكم- كتب الله لكم سعداً متجدد الإحكام، وصنعاً مشرق القسام وافر الأقسام؛ وعرفكم ما عودكم من عوارف الإنعام، وعوائد النصر الواضح الأعلام- ولا زائد بفضل الله سبحانه، ثم ببركة سيدنا ومولانا محمد رسوله الذي أوضح برهانه، ثم بما عندنا من التشيع في مقام محل أبينا والدكم السلطان الجليل، أسعد الله سلطانه! ومهد به أوطانه! إلا ما يرجى من عوائد اله الجميلة، ومننه الجزيلة، وألطافه الكافية الكفيلة وعندنا من التعظيم لتكل الإمارة الرفيعة ما هو أشهر من الشهير، وأعظم من أ، يحتاج إلى التفسيرح فلا نزال نعتد لجانت أخوتها بالعتاد الكبير، والذخر الخطير، ونثني على مكارمها بالقلم واللسان والضمير. وإلى هذا أيد الله إمارتكم، وسنى إرادتكم، وأسعد إدارتكم، فقد علم الغائب والشاهد، والصادر والوارد، ما عندنا لكم من الحب الذي صفت منه الموارد، والولاء الذي تضوعت من طيبه المعاهد؛ وإننا تعرفنا ما كان من قدومكم السعيد على أحواز المرية من تلك الأقطار، وطلوعكم عليها بالعزم الماضي والجيش الجرار. وأن محل والدنا وصل الله له علو المقدار، قدم منكم بين يديه مقدمة اليمن والاستبشار، ورائد السعادة المشرقة الأنوار، بخلال ما يتلاحق بها ركابه العالي قدره على الأقدار؛ وأن مخايل النجح لإمارتكم الرفيعة قد طهرت، وأدلة الصنع الجميل قد بهرت، ومن بتلك الجهات، من القبائل المختلفات، بالطاعة قد ابتدرت، وبأوامرها الإمارية قد ائتمرت، وأنكم قد أخذتم في تسكين الأوطان وتمهيدها، واستئناف العزائم وتجديدها، وإطفاء نار الفتن وإخماها، وإعلاء أركان تلك الإيالة ورفع عمادها؛ فكتبنا إليكم هذا الكتاب نهنئكم بما سناه الله لمجدكم الرفيع، من حسن الصنيع، ونقرر ما عندنا من الود الكريم، والحب الصميم، ونستفهم عن أحوال أخوتكم لنكون من علمها على السنن القويم، وحتى لا تزال الأسباب متصلة، والمودة جديدة مقتبلة؛ ولولا العوائق المانعة، والشقة البعيدة الشاسعة، والأمواج المترأمية المتدافعة، لم نغب المخاطبة، ولوصلنا المراسلة والمكاتبة؛ ومجدكم يقبل الأعذار الصحيحة بمقتضى كماله، ومعهود إفضاله؛ والله تعالى يصلح بكم الأحوال، ويسكن الأهوال، ويبلغكم من قضله الآمال، وغرضنا أن تعرفونا بما لديكم من المتزيدات، والصنائع المتجددات، وبما عندكم من أحوال محل أبينا وصل الله عوائد النصر لسلطانه، وتكفل بإعلاء أمره وتمهيد أوطانه. وقد كتبنا إليه صحبة هذا كتاباً غرضنا من أجوتكم الطاهرة، أن يصل إلى حضرته العلية تحت عنايتكم ووصاتكم، والرعاية التي تليق بذاتكم؛ وهو سبحانه يصل سعدكم ويحرس مجدكم، ويحفظ ولاءكم الكريم وودكم؛ والسلام الكريم عليكم ورحمة الله وبركاته.
الأسلوب الثاني: أن تفتتح المكاتبة باسم المكتوب إليه أو المكتوب عنه:
وهو على ضربين:
الضرب الأول: أن تفتتج الكاتبة باسم المكتوب إليه تعظيماً له:
والرسم فيه أن يقال: إلى فلان، وينعت بما يليق به؛ ثم يؤتى بالسلام، ويقال: أما بعد ويؤتى بخطبة، ثم يقال: فإنا كتبناه إليكم كتب الله لكم كذا وكذا، من موضع كذا، ويتخلص إلى المقصود بلفظ وإلى هذا ويؤتى على المقصود إلى آخره، ويختم بالسلام.
كما كتب ابن الخطيب عن سلطانه ابن الأحمر إلى الأمير يلبغا العمري الشهير بالخاصكي: أتابك العساكر بالديار المصرية في الدولة الأشرفية شعبان بن حسين إلى الأمير المؤتمن على أمر سلطان المسلمين، المقلد بتدبيره السديد قلادة الدين، المثني على رسوم بره المقامة لسان الحرم الأمين، الآوي من مرضاة الله تعالى ورسوله إلى ربوة ذات قرار ومعين، المستعين من الله على ما تحمله وأمله بالقوي المعين، سيف الدعوة، ركن الدولة، قوام الملة، مؤمل الأمة، تاج الخواص، أسد الجيوش، كافي الكفاة، زين الأمراء، علم الكبراء، عين الأعيان، حسنة الزمان، المرفع، الأسنى، الكبير، الأشهر، الأسمى، الحافل، الفاضل، الكامل المعظم، الموقر، الأمير، الأوحد، يلبغا الخاصكي، وصل الله له سعادة تشرق غرتها، وصنائع تسح فلا تشح درتها، وأبقى تلك المثابة قلادة الله وهو درتها؛ سلام كريم، طيب عميم، يخص إمارتكم التي جعل الله الفضل على سعادتها أمارة، واليسر لها شارة، فيساعد الفلك الدوار مهما أعملت إدارة، وتمتثل الرسوم كلما أشارت إشارة.
أما بعد حمد الله الذي هو بعلمه في كل مكان، من قاص ودان، وإليه توجه الوجوه وإن اختلفت السير وتباعدت البلدان، ومنه يلتمس الإحسان، وبذكره ينشرح الصدر ويطمئن القلب ويمرح اللسان، والصلاة والسلام على سيدنا مولانا محمد رسوله العظيم السان، ونبيه الصادق البيان، الواضح البرهان، والرضا عن آله وأصحابه، وأعمامه وأحزابه، أحلاس الخيل، ورهبان الليل، وأسود الميدان، والدعاء لإمارتكم السعيدة بالعز الرائق الخبر والعيان، والتوفيق الوثيق البنيان؛ فإنا كتبناه إليكم- كتب الله لكم حظاً من فضله وافراً، وصنيعاً عن محيا السرور سافراً، وفي جو الإعلام بالنعم الجسام مسافراً. من حمراء غرناظة- حرسها اله- دار الملك بالأندلس، دافع اله عن حوزتها كيد العداة، وأتحف نصلها ببواكر النصر المهداة، ولا زائد إلا الشوق إلى التعارف بتلك الأبواب الشريفة التي أنتم عنوان كتابها المرقوم، وبيت قصيدها المنظوم، والتماس بركاتها الثابتة الرسوم، وتقرير المثول في سبيل زيارتها بالأرواح عند تعذره بالجسوم.
وإلى هذا فإننا كانت بين سلفنا- تقبل الله جهادهم وقدس نفوسهم وأمن معادهم- وبين تلك الأبواب السلطانية- ألقى اله على الإسلام والسملمين ظلالها، كما عرفهم عدلها وإفضالها- مراسلة ينم عرف الخلوص من خللها، وتسطع أنوار السعادة من آفاق كمالها؛ وتلتمح من أسطار طروسها محاسن تلك المعاهد، الزاكية المشاهد، وتعرب عن فضل المذاهب وكرم المقاصد، اشتقنا إلى أن نجددها بحسن منابكم، ونصلها بمواصلة جنابكم، ونغتنم في عودها الحميد مكانكم، ونفضل لها زمانكم؛ فخاطبنا الأبواب الشريفة في هذا الغرض بمخاطبة خجلة من التقصيرن وجلة من الناقد البصير؛ ونيؤمل الوصول في خفارة يدكم التي لها الأيادي البيض، والموارد التي لا تغيض؛ ومثلكم من لا تخيب المقاصد في شمائله، ولا تضح المآمل في ظل خمائله؛ فقد اشتهر من عظيم سيرتكم ما طبق الآفاق، وصحب الرفاق واستلزم الإصفاق؛ وهذه البلاد مباركة، ما أسلف أحد فيها مشاركة، إلا وجدها في نفسه وماله ودينه وعياله، والله أكرم من وفي لمريء بمكياله؛ والله جل جلاله يجمع القلوب على طاعته، وينفع بوسيلة النبي الذي نعول على شفاعته، ويبقي تلك الأبواب ملجأ للإسلام والمسلمين، وظل لله على العالمين، وإقامة لشعائر الحرم الأمين، ويتولى إعانة إمارتكم على وظائف الدبن، ويجعلكم ممن أنعم الله عليه من المجاهدين؛ والسلام الكريم يخصكم ورحمة الله وبركاته.
الضرب الثاني: أن تفتتح المكاتبة باسم المكتوب عنه:
وهو على صنفين:
الصنف الأول: ما يكتب به إلى بعض الملوك:
والرسم فيه أن يقال: من فلان إلى فلان، بألقابه ونعوته ونعوت آبائه على ما تقدم؛ ثم يؤتى بالسلام، ويقال أما بعد حمد الله، ويؤتى بخطبة ثم يقال فإنا كتبناه إليكم كتب الله لكم كذا؛ ثم يقال: وإلى هذا فإن كذا وكذا، ويؤتى على المقصود إلى آخره، ويختم بالدعاء ثم بالسلام على نحو ما مر.
كما كتب ابن الخطيب عن ابن الأحمر إلى بعض ملوك الغرب يهنئه بدخول مدينة بجاية في طاعته ما صورته: من أمير المسلمين عبد اله محمد، ابن مولانا أمير المسلمين أبي الحجاج، ابن مولانا أمير المسلمين أبي الوليد إسماعيل بن فرج بن نصر أيد الله أمره، وأعز نصره، إلى محل أخينا الذي نصل له أسباب الإعظام والإجلال، ونثني عليه بما له من كريم الشيم وحميد الخلال، ونسر له ببلوغ الآمال، ونجاح الأعمال، في طاعة ذي الجلال، السلطان فلان ابن السلطان فلان، بالألقاب اللائقة بكل منهم، وصل الله له سعداً متصل الدوام دائم الاتصال، وصنعاً تتجلى وجوهه من ثنايا القبول والإقبال، وعزاً اتتفيأ ظلاله عن اليمين والشمال؛ سلام كريم، بر عميم، يخص سلطانك الأسنى، ويعتمد مقامكم المخصوص بالزيادة والحسنى، ورحمة الله وبركاته.
أما بعد حمد الله الواهب الفاتح، المانع المانح، مظهر عنايته بمن خلص إليه قصده، وقصر على ما لديه صدره وورده؛ أبدى من محيا النهار الواضح، الذي وعد من اتقاه مق تقاته، على ألسنة سفرة الوحي وثقاته، بنجح الخوانم والفواتح، والصرة والسلام على سيدنا محمد رسوله المبتعث لدرء المفاسد ورعي المصالح، وسعادة الغدي والرائح، منقذ الناس يوم الفزع الأكبر وقد طاحت بهم أيدي الطوائح، وهاديهم إلى سواء السبيل بأزمة النصائح، ومظفرهممن السعادة الدائمة بأربح البضائع وأسنى المنائح، والرضا عن آله وأصحابه، وعترته وأحزابه، الذين خلفوه امتثالاً لأمر الصحائف وإعمالاً للصفائح، وكانوا لمته من بعده في الابتداء بسنته والمحافظة على سننه كالنجوم اللوائح، والدعاء لسلطانكم السمى، بالسعد الذي يغنى بوثاقة سببه، ووضوح مذهبه، عن زجر البارح والسانح، والعز البعيد المطارح، السامي المطامح، والصنع الجميل الباهر الملامح؛ ولا زال توفيق الله عائداً على تدبيركم السعيد بالسعي الناجح، والتجر الرابح.
فإنا كتبناه إليكم- كتب الله لكم من فضله أوفر الأقسام وأوفاها، وأوردكم من موارد عنايته أعذب الجمام وأصفاها، كما أسبغ عليكم أثواب المواهب وأضفاها. وأبدى لكم وجوه اللطائف الجميلة وأحفاه - من حمراء غرناطة- حرسها الله- وفضل الله هأمية ديمه، وعوائد اللطف يصلها فضله وكرمه، والإسلام بهذا الثغر الجهادي مرعية ذممه، وجاه النبوة المحمدية يعمل بين إرغام العدو الكافر، وإهداء المسرات والبشائر، سيفه وقلمه، والسرور بما يبلغ من مزيد سعدكم وميضه خافق علمه، وودكم ثابت في مواقف الخلوص قدمه.
وقد اتصل بنا ما كان من دخول حضرة بجاية حرسها الله في طاعتكم، وانتظاها في سلك جماعتكم، وانقطاعها إلى عصمتكم، تمسكها بأزمتكم، وعقدكم منها ومن أخختها السبقة الذمام، الخليقة بمزيد الاهتمام، على عقيلتي الأقطار التي لا يجمع بينهما إلا ملك همام، وخليفة إمام، ومن وضحت من سعادته أحكام، وشهرت بعناية الله له أدلة واضحة وأعلام، ومن جمع الله له بين البر المتراكض الخيول، والجيش المتدافع السيول، والخصب الذي تنضي مواجده المستنجزة ظهور الخيول، وبين البحر الشهير بنجدة الأسطول، وإنجامز وعد النصر الممطول، ومرسى السفن التي تخوض أحشاء البحار، وتجلب مرافق الأمطار والأقطار، وتتحف على الناي بطرف الأخبار.
بجاية وما بجاية دار الملك الأصيل العتيق وكرسي العز الوثيق، والعدة إذا توقعت الشدة، كم ثبتت على الزلزال، وصابرت مواقف النزال، أمطاكم السعد صهوتها، وأحلكم التوفيق ربوتها، من غير مطأولة حصارن ولا استنفاذ ذي وسع واقتدار، ولا تسور جدار، فأصبحت دولتكم السعيدة تتفيأ جنى الجنتين، وتختال في حلتين، وتجمع بفتيا، السيوف المالكية بني هاتين الأختين؛ أوزعكم الله شكرها من نعمة جلت مواهبها، ووضحت مذاهبها، وصنيعة بهرت عجائبها. وإذا كانت عقائل النعم تخطب أكفاءها، وموارد المنن تعرض على الوراد صفاءها، فأنتم أهلها الذين لكم تذخرن وبمن دونكم تسخر؛ فإنكم تميزتم بخصال العفاف والبسالة، والحسب والجلالة، وأصبحتم في بيتكم صدراً، وفي هالة قومكم بدراً، مواقفكم شهيرة، وسيرتكم في الفضل لا تفضلها سيرة، ونحن نهنئكم يما منحكم الله من انفساح الإيالة، ونمو الجلالة، والنعم المنثالة، بسلطان ألقى عنانه إلى مثلكم قد أختار لقياده، وأرتاد فسعد في أرتياده؛ وتكفل الحزم بحفظ بلاده، وصون طارفه وتلاده؛ وكأن به قد استولى على آماده، وتطأول لإرث أجداده. ولنا فيكم- علم الله- ود تأسس بناؤه، وكرمت أبناؤه، وحب وجب بالشرع إنفاذه إليكم وإنهاؤه. وغرضنا الذي نؤثره على الأغراض والمقاصد، ونقدمه بمقتضى الخلوص الذي زكت منه الشواهد، أن تتصل بيننا وبينكم المخاطبة، وتتعاقب المواصلة والمكاتبة، والله عز وجل المعين على ما يجب لودكم من بر تكفل واجبه، وتوضح مذاهبه، واعتقاد جميل يتساوى شاهده وغائبه، وهو سبحانه يصل سعدكم، ويحرس مجدكم، والسلام الكريم يخصكم ورحمة الله وبركاته.
الصنف الثاني: ما يكتب به إلى الرعايا:
والحكم فيه على نحو ما تقدم في الصنف الذي قبله، إلا أنه يخاطبهم بأوليائنا.
كما كتب ابن الخطيب عن ابن الأحمر أيضاً إلى بعض رعاياه بمدينة المرية بالأندلس، بالبشارة بموت الطاغية ملك قشتالة بجبل الفتح، ورحيل قومه به إلى بلادهم ما صورته: من الأمير عبد الله يوسف، ابن مولانا أمير المسلمين أبي الوليد إسماعيل ابن فرج بن نصر أيد الله أمره، وأعز نصره، وأسعد عصره؛ إلى أوليائنا في الله تعالى الذين نبادر إليهم بالبشائر السافرة الغرر، ونجلو عليهم وجوه الصنائع الإلهية كريمة الخبر والخبر، ونعلم ما لهم من الود الكريم الأثر: القائد بالمرية، والقاضي بها، والفقهاء، والأشياخ، والوزراء والأمراء والكافة والدهماء من أهلها، عرفهم الله عوارف الأداء، وأوزعهم شكر نعمة هذا الفتح الرباني الذي تفتحت له أبواب السماء، وأنشرت معجزاته ميت الرجاء في هذه الأرجاء. سلامً كريم، طيب بر عميم، تنشق منه نفحات الفرج، عاطرة الأرج، ورحمة الله وبركاته.
أما بعد حمد الله فاتح أبواب الأمل بعد استغلاقها، ومتدارك هذه الأمة المحمدية بالصنع الذي تجلى لها ملء أحداقها، والرحمة التي مدت على النفوس والأموال، والحرمات والأحوال، ضافي رواقها، والصلاة والسلام على سيدنا ومولانا محمد رسوله الذي دعوته هي العروة الوثقى لمن تمسك باعتلاقها، وأقام على ميثاقها، ذي المعجزات التي بهرت العقول بائتلاقها، الذي لم ترعه في الله الشدائد على اشتداد وثاقها، وفظاعة مذاقها، حتى بلغت كلمة الله ما شاءت من انتظامها واتساقها، والرضا عن آله وصحبه، وعترته وحزبه؛ الفائزين في ميدان الدنيا والدين بخصل سباقها. فإنا كتبناه إليكم- كتب الله لكم شكراً لنعمه، ومعرفة بمواقع كرمه، من حمراء غرناطة- حرسها الله- ولا زائد بفضل الله سبحانه إلا ما أمن الأرجاء ومهدها، وأنشأ معالم الإسلام وجددها، وأسس أركان الدين الحنيف وأقام أودها، وأنتم الأولياء الذين نعلم منهم خلوص الأهواء، ونتحقق ما عندهم من الخلوص والصفاء، وإلى هذا فقد علمتم ما كانت الحال آلت إليه من ضيقة البلاد والعباد بهذا الطاغية الذي جرى في ميدان الأمل جري الجموح، ودارت عليه خمرة النخوة والخيلاء مع الغبوق والصبوح، حتى طفح بسكر اغتراره، ومحص المسلمون على يديه بالوقائع التي تجاوز منتهى مقداره، وتوجهت إلى استئصال الكلمة مطامع أفكاره، ووثق بأنه يطفيء نور الله بناره، ونازل جبل الفتح فشد مخنق حصاره، وأدار أشياعه في البر والبحر دور السوار على أسواره، وانتهز الفرصة بانقطاع الأسباب، وانبهام الأبواب، والأمور التي لم تجر للمسلمين بالعدوتين على مألوف الحساب؛ وتكالب التثليث على التوحيد، وساءت الظنون في هذا القطر الوحيد، المنقطع بين الأمم الكافرة، والبحور الزاخرة، والمرام البعيد، وإننا صابرنا بالله تيار سيله، واستضأنا بنور التوكل عليه في جنح هذا الخطب ودجنة ليله، ولجأنا إلى من بيده نواصي الخلائق، واعتلقنا من حبله المتين بأوثق العلائق، وفسحنا مجال الأمل في ذلك الميدان المتضايق؛ وأخلصنا لله مقيل العثار، ومولى أولي الاضطرار، قلوبنا، ورفعنا إليه أمرنا، ووقفنا عليه مطلوبنا، ولم نقصر ذلك في إبرام العزم واستشعار الحزم، وإمداد الثغور بأقصى الإمكان، وبعث الجيوش إلى ما يلينا من بلاده على الأحيان؛ فرحم الله انقطاعنا إلى كرمه، حين لجأنا إلى حرمه، فجلا بفضله سبحانه ظلام الشدة، ومد على الحريم والأطفال ظلال رحمته الممتدة، وعرفنا عوارف الصنع الذي قدم به العهد على طول المدة، ورماه بجيش من جيوش قدرته أغنى عن إيجاف الركاب، واحتشاد الأحزاب، وأظهر فينا قدرة ملكه عند انقطاع الأسباب، واستخلص العباد والبلاد من بين الظفر والناب؛ فقد كان سد المجاز بأساطيله، وكاثر كلمة الحق بأباطيله، ورمى الجزيرة الأندلسية بشوبوب شره، وصيرها فريسة بين غربان بحره وعقبان بره، فلم يخلص إلى المسلمين من إخوانهم مرفقة إلا على الخطر الشديد، والإفلات من يد العدو العنيد، مع توفر العزائم- والحمد لله- على العمل الحميد، والسعي فيما يعود على الدين بالتأييد.
وبينما شفقتنا على جبل الفتح تقيم وتقعد، وكلب الأعداء عليه يبرق ويرعد، واليأس والرجاء خصمان هذا يقرب وهذا يبعد، إذ طلع علينا البشير بانفراج الأزمة، وحل تلك العزمة، وموت شاة تلك الرقعة، وإبقاء الله على تلك البقعة، وأنه سبحانه أخذ الطاغية أكمل ما كان اغتراراً، وأعظم أنصاراً؛ وزلزل أرض عزه وقد أصابت قراراً؛ وأن شهاب سعده أصبح آفلاً، وعلم كبره انقلب سافلاً؛ وأن من بيده ملكوت السموات والأرض طرقه بحتفه، وأهلكه برعم أنفه؛ وأن محلته عاجلها التباب والتبار، وعاثت في منازله النار، وتمخض عن سوء عاقبته الليل والنهار، وأن حماتها يخربون بيوتهم بأيديهم، وينادي بشتات الشمل لسان مناديهم، وتلاحق بنا الفرسان من جبل الفتح: المعقل الذي عليه من عناية الله رواق مضروب، والرباط الذي من حاربه فهو المحروب، فأخبرت بانفراج الضيق، وارتفاع العائق لها عن الطريق، وبرء الداء الذي أشرق بالريق وأن النصارى دمرهم الله جدت في ارتحالها، وأسرعت بجيفة طاغيتها إلى سوء مآلها، وسمحت للسهب، والنهب والنار بأسلابها وأموالها؛ فبهرنا هذا الصنع الإلهي الذي مهد الأقطار بعد رجفانها، وأنام العيون بعد سها أجفانها، وسألنا الله أن يعيننا على شكر هذه النعمة التي إن سلطت عليها قوى البشر فضحتها ورجحتها، وأو قيست بالنعم فضلتها؛ ورأينا سر اللطائف الخفية كيف سريانه في الوجود، وشاهدنا بالعيان أنوار اللطف الإلهي والجود، وقلنا إنما هو الفتح الأول شفع بثان، وقواعد الدين الحنيف أيدت من صنع الله ببيان.
اللهم لك الحمد على نعمك الباطنة والظاهرة، ومننك الوافرة، أنت ولينا في الدنيا والآخرة؛ وأمرنا للحين فقلدت لبات المنابر بهذا الخبر، وجليت في جماعات المسلمين وجوه هذا الفتح الرائق بالغرر؛ وعجلنا تعريفكم به ساعة استجلائه، وتحقق أنبائه، لتسحبوا له أثواب الجذل ضافية، وتردوا به موارد الأمل صافية؛ فأنما هو ستر الله شمل أنفسكم وحريمكم، وأمانة كفل ظاعنكم ومقيمكم، فقرطوا به الآذان وبشروا به الإقامة والأذان، وتملوا بالعيش في ظله، وواظبوا حمد الله ولي الحمد وأهله، وانشروا فوق أعواد المنابر من خطابه راية ميمنونة الطائر، واجعلوا هذه البشارة سجلاً في فرقان البشائر؛ فشكر الله سبحانه يستدعي المزيد من نعمه، ويضمن اتصال كرمه، وعرفوا بذلك من يليكم من الرعية ليأخذ مثل أخذكم، ويلحظ هذا الأمر بمثل لحظكم، فحقيق عليكم أ، تشيدوا بهذا الخبر في الحاضر والباد، وتجعلوا يوم عاشوراء الذي تجلى فيه هذا الصنع ثالث الأعياد، والله سبحانه يجعله للمسرات عنواناً ويطلع علينا وعليكم وجوه صنعه عراً حساناً، والسلام الكريم يخصكم ورحمة الله وبركاته.
الأسلوب الثالث: أن تفتتح المكاتبة بلفظ: أما بعد:
والرسم فيها، يقال أما بعد حمد الله، أو أما بعد فالحمد لله، ويؤتى بخطبة. ثم يقال: فإنا كتبناه إليكم من موضع كذا كتب الله لكم كذا وكذا؛ ثم يتخلص إلى المقصودويؤتى عليه إلى آخره، ويختم بالدعاء ثم بالسلام.
كما كتب ابن الخطيب عن ابن الأحمر من الأندلس.
أما بعد حمد الله محسن العواقب، ومخلد المناقب، ومعلي المراقي في درج علية المراقب، ومسخر النجم الثاقب في الغسق الواقب، والكفيل بالحسنى للتوكل عليه المراقب، ناسخ التمحيص، بالعناية والتخصيص، لتظهر حكمة المثيب والمعاقب.
والصلاة والسلام على سيدنا ومولانا محمد رسوله الماحي الحاشر العاقب، ذي القدر المسامي للزهر المصاقب. والرضا عن آله الذين كانوا في سماء ملته لهداية أمته كالشهب الثواقب، فإنا كتبناه إليكم- كتب الله لكم تولي المواهب، ووضوح المذاهب، ووقوف الدهر لديكم موقف الثائب من القدح النائب، ووالى لديكم مفاتحة الكتب المهنئة بفتوح الكتائب- من حمراء غرناطة- حرسها الله- وفضل الله بتعرف صنعه لكم هامي السحائب، وكفيل بنيل الرغائب؛ والسرور بما سناه الله لكم من استقامة أحوالكم شأن الشاهد والغائب، والرائح والآئب.
والحمد لله على ما توالى من الألطاف والعجائب. وقد وصل كتابكم الذي أكد السرور وأصله، وأجمل مقتضى البشرى وفصله، ونظم خبر الفتح ووصله، وراش سهم السعادة والسداد والعناية والإمداد، ونصله، وأحرز حظ السعاة وحصله، تعرفون ما أتاح لكم اللطيف الخبير، والولي النصير، من الصنع الذي ابتسق نظامه، والنصر الذي سنت في أم الكتاب أحكامه، والعز الذي خفقت أعلمه، والتوفيق الذي قرطست الغرض سهامه، وأنكم من بعد الكائنة التي راش لطف الله بها وجبر، وأحسن الخير وأدال الخبر، وجعل العاقبة الحسنى لمن صبر، وجهزتم الجيوش المختارة، والعساكر الجرارة، يقودها الخلصان من الوزراء، وتتقدم رايتها ميامن الآراس، فكتب الله ثبات أقدامها، وتولي نصر أعلامها؛ ولم يكن إلا أن حمي وطيس النزال، ورجفت الأرض لهول الزلزال، وتعوطيت كؤوس الآجال، في ضنك المجال؛ ودجا القتام، وتوهم مع فضل الله الاغتنام، وعبس الوجه العباس وضحك النصل البسام، وأورد الخيل موارد الطعان الإقدام، فكان لحزبكم الظهور الذي حكم المهندة في الرقاب، والسمر الطوال في الثغر ثم في الأعقاب، وبشرت برؤية هلال الفتح عيون الارتقاب، وحط عن الصنع الجميل ما ران من الناب، وأن من بغى عليكم حسب ما قررتم، وعلى نحو ما أجملتم وفسرتم، من شيوخ الغرب المجلبة، ووجوه الخدم المنتمية إلىحسن العهد المنتسبة؛ تحصل في حكم استرقاقكم، وتحت شد وثاقكم؛ وربما أسف المكروه عن المحبوب، وانجلى المرهوب عن المرغوب، والله مقلب القلوب؛ وشيمتكم في ائتلاف النافر، والأخذ من فضل العفو بالحظ الوافر، كفيل لكم بالصنع السافر؛ والله يحملكم على ما فيه رضاه، ويخير لكم فيما قضاه؛ فسررنا بما اتصل لكم من الصنع واطرد، ورحبنا بهذا الوارد الكريم الذي ورد، وشكرنا فضلكم في التعريف بخبره المودود، والشرح لمقامه المحمود؛ وكتبنا نهنئكم به هناء مشفوعاً، وبالدعاء لكم متبوعاً، والله يطلع من توالي مسرتكم على ما يبسط الآمال وينجح الأعمال، ويفسح في السعد المجال. والذي عندنا من ودكم أعظم من استيفائه بالمقال، أو نهوض اليراع بوظائفه الثقال؛ يعلم ذلك عالم الخفيات، والمجازي بالنيات، سبحانه. والله يصل سعدكم، ويحرس مجدكم، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.